فصل: تفسير الآيات (219- 223):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: مدارك التنزيل وحقائق التأويل بـ «تفسير النسفي» (نسخة منقحة).



.تفسير الآيات (219- 223):

{يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآَيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ (219) فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلَاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (220) وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلَا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ أُولَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَيُبَيِّنُ آَيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (221) وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ (222) نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلَاقُوهُ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (223)}
{يَسْئَلُونَكَ عَنِ الخمر والميسر} فشربها قوم وتركها آخرون، ثم دعا عبد الرحمن بن عوف جماعة فشربوا وسكروا فأم بعضهم فقرأ {قل يا أيها الكافرون} (أعبد ما تعبدون) فنزل {لاَ تَقْرَبُواْ الصلاة وَأَنتُمْ سكارى} [النساء: 43] فقل من يشربها، ثم دعا عتبان بن مالك جماعة فلما سكروا منها تخاصموا وتضاربوا فقال عمر: اللهم بيّن لنا في الخمر بياناً شافياً فنزل {إِنَّمَا الخمر والميسر} إلى قوله {فَهَلْ أَنْتُمْ مُّنتَهُونَ} [المائدة: 91] فقال عمر: انتهينا يا رب. وعن علي رضي الله عنه: لو وقعت قطرة في بئر فبنيت مكانها منارة لم أؤذن عليها، ولو وقعت في بحر ثم جف ونبت فيه الكلأ لم أرعه. والخمر ما غلى واشتد وقذف بالزبد من عصير العنب، وسميت بمصدر خمره خمراً إذا ستره لتغطيتها العقل. والميسر القمار مصدر من يسر كالوعد من فعله يقال يسرته إذا أقمرته، واشتقاقه من اليسر لأنه أخذ مال الرجل بيسر وسهولة بلا كد وتعب، أو من اليسار كأنه سلب يساره. وصفة الميسر أنه كانت لهم عشرة أقداح سبعة منها عليها خطوط وهو الفذ وله سهم، والتوأم وله سهمان، والرقيب وله ثلاثة، والحلس وله أربعة، والنافس وله خمسة، والمسبل وله ستة، والمعلى وله سبعة، وثلاثة أغفال لا نصيب لها وهي المنيح والسفيح والوغد، فيجعلون الأقداح في خريطة ويضعونها على يد عدل ثم يجلجلها ويدخل يده ويخرج باسم رجل قدحاً قدحاً منها، فمن خرج له قدح من ذوات الأنصباء أخذ النصيب الموسوم به ذلك القدح، ومن خرج له قدح ما لا نصيب له لم يأخذ شيئاً وغرم ثمن الجزور كله، وكانوا يدفعون تلك الأنصباء إلى الفقراء ولا يأكلون منها ويفتخرون بذلك ويذمون من لم يدخل فيه، وفي حكم الميسر أنواع القمار من النرد والشطرنج وغيرهما، والمعنى يسألونك عما في تعاطيهما بدليل {قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ} بسبب التخاصم والتشاتم وقول الفحش والزور {كثير}: حمزة وعلي. {ومنافع لِلنَّاسِ} بالتجارة في الخمر والتلذذ بشربها، وفي الميسر بارتقاق الفقراء أو نيل المال بلا كد {وَإِثْمُهُمَا} وعقاب الإثم في تعاطيهما {أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا} لأن أصحاب الشرب والقمار يقترفون فيها الآثام من وجوه كثيرة.
{وَيَسْئَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ العفو} أي الفضل أي أنفقوا ما فضل عن قدر الحاجة، وكان التصدق بالفضل في أول الإسلام فرضاً فإذا كان الرجل صاحب زرع أمسك قوت سنة وتصدق بالفضل، وإذا كان صانعاً أمسك قوت يومه وتصدق بالفضل فنسخت بآية الزكاة. {العفو}: أبو عمرو؛ فمن نصبه جعل {ماذا} اسماً واحداً في موضع النصب ب {ينفقون} والتقدير: قل ينفقون العفو، ومن رفعه جعل (ما) مبتدأ وخبره (ذا) مع صلته ف (ذا) بمعنى (الذين) و{ينفقون} صلته أي ما الذي ينفقون فجاء الجواب {العفو} أي هو العفو فإعراب الجواب كإعراب السؤال ليطابق الجواب السؤال.
{كذلك} الكاف في موضع نصب نعت لمصدر محذوف أي تبييناً مثل هذا التبيين {يُبيّنُ الله لَكُمُ الآيات لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ في الدنيا} أي في أمر الدنيا {والآخرة} و{في} يتعلق بتتفكرون أي تتفكرون فيما يتعلق بالدارين فتأخذون بما أصلح لكم، أو تتفكرون في الدارين فتؤثرون أبقاهما وأكثرهما منافع، ويجوز أن يتعلق ب {يبين} أي يبين لكم الآيات في أمر الدارين وفيما يتعلق بهما لعلكم تتفكرون. ولما نزل {إِنَّ الذين يَأْكُلُونَ أموال اليتامى ظُلْماً} [النساء: 10] اعتزلوا اليتامى وتركوا مخالطتهم والقيام بأموالهم وذكروا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فنزل.
{وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ اليتامى قُلْ إصْلاَحٌ لَّهُمْ خَيْرٌ} أي مداخلتهم على وجه الإصلاح لهم ولأموالهم خير من مجانبتهم {وَإِن تُخَالِطُوهُمْ} وتعاشروهم ولم تجانبوهم {فَإِخوَانُكُمْ} فهم إخوانكم في الدين ومن حق الأخ أن يخالط أخاه {والله يَعْلَمُ المفسد} لأموالهم {مِنَ المصلح} لها فيجازيه على حسب مداخلته فاحذروه ولا تتحروا غير الإصلاح {وَلَوْ شَاءَ الله} إعناتكم {لأَعْنَتَكُمْ} لحملكم على العنت وهو المشقة وأحرجكم فلم يطلق لكم مداخلتهم {إِنَّ الله عَزِيزٌ} غالب يقدر على أن يعنت عباده ويحرجهم {حَكِيمٌ} لا يكلف إلا وسعهم وطاقتهم.
ولما سأل مرثد النبي صلى الله عليه وسلم عن أن يتزوج عناق وكانت مشركة نزل: {وَلاَ تَنْكِحُواْ المشركات حتى يُؤْمِنَّ} أي لا تتزوجوهن. يقال نكح إذا تزوج وأنكح غيره زوجه {وَلأَمَةٌ مُّؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مّن مُّشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ} ولو كان الحال أن المشركة تعجبكم وتحبونها {وَلاَ تُنكِحُواْ المشركين} ولا تزوجوهم بمسلمة كذا قاله الزجاج. وقال جامع العلوم: حذف أحد المفعولين والتقدير ولا تنكحوهن المشركين {حتى يُؤْمِنُواْ وَلَعَبْدٌ مُّؤْمِنٌ خَيْرٌ مّن مُّشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ}. ثم بين علة ذلك فقال: {أولئك} وهو إشارة إلى المشركات والمشركين {يَدْعُونَ إِلَى النار} إلى الكفر الذي هو عمل أهل النار فحقهم أن لا يوالوا ولا يصاهروا {والله يَدْعُواْ إِلَى الجنة والمغفرة} أي وأولياء الله وهم المؤمنون يدعون إلى الجنة والمغفرة وما يوصل إليهما فهم الذين تجب موالاتهم ومصاهرتهم {بِإِذْنِهِ} بعلمه أو بأمره {وَيُبَيِنُ آياته لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} يتعظون.
كانت العرب لم يؤاكلوا الحائض ولم يشاربوها ولم يساكنوها كفعل اليهود والمجوس، فسأل أبو الدحداح رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك وقال: يا رسول الله كيف نصنع بالنساء إذا حضن؟ فنزل {وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ المحيض} هو مصدر يقال حاضت محيضاً كقولك (جاء مجيئاً) {قُلْ هُوَ أَذًى} أي المحيض شيء يستقذر ويؤذي من يقربه {فاعتزلوا النساء فِي المحيض} فاجتنبوهن أي فاجتنبوا مجامعتهن.
وقيل: إن النصارى كانوا يجامعونهن ولا يبالون بالحيض، واليهود كانوا يعتزلونهن في كل شيء، فأمر الله بالاقتصاد بين الأمرين. ثم عند أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله يجتنب ما اشتمل عليه الإزار، ومحمد رحمه الله لا يوجب إلا اعتزال الفرج. وقالت عائشة رضي الله عنها: يجتنب شعار الدم وله ما سوى ذلك. {وَلاَ تَقْرَبُوهُنَّ} مجامعين أو ولا تقربوا مجامعتهن {حتى يَطْهُرْنَ} بالتشديد كوفي غير حفص أي يغتسلن وأصله {يتطهرون} فأدغم التاء في الطاء لقرب مخرجيهما. غيرهم {يطهرن} أي ينقطع دمهن، والقراءتان كآيتين فعملنا بهما وقلنا له أن يقربها في أكثر الحيض بعد انقطاع الدم وإن لم تغتسل عملاً بقراءة التخفيف، وفي أقل منه لا يقربها حتى تغتسل أو يمضي عليها وقت الصلاة عملاً بقراءة التشديد، والحمل على هذا أولى من العكس لأنه حينئذ يجب ترك العمل بإحداهما لما عرف، وعند الشافعي رحمه الله لا يقربها حتى تطهر وتتطهر دليله قوله تعالى: {فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ} فجامعوهن فجمع بينهما {مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ الله} من المأتى الذي أمركم الله به وحلله لكم وهو القبل {إِنَّ الله يُحِبُّ التوابين} من ارتكاب ما نهوا عنه أو العوادين إلى الله تعالى وإن زلوا فزلوا والمحبة لمعرفته بعظم عفو الله حيث لا ييأس {وَيُحِبُّ المتطهرين} بالماء أو المتنزهين من أدبار النساء أو من الجماع في الحيض أو من الفواحش.
كان اليهود يقولون إذا أتى الرجل أهله باركة أتى الولد أحول فنزل {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ} مواضع حرث لكم وهذا مجاز شبهن بالمحارث تشبيهاً لما يلقى في أرحامهن من النطف التي منها النسل بالبذور والولد بالنبات، ووقع قوله {نساؤكم حرث لكم} بياناً وتوضيحاً لقوله: {فأتوهن من حيث أمركم الله}. أي إن المأتى الذي أمركم الله به هو مكان الحرث لا مكان الفرث تنبيهاً على أن المطلوب الأصلي في الإتيان هو طلب النسل لإقضاء الشهوة فلا تأتوهن إلا من المأتي الذي نيط به هذا المطلوب {فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ أنى شِئْتُمْ} جامعوهن متى شئتم أو كيف شئتم باركة أو مستلقية أو مضطجعة بعد أن يكون المأتي واحداً وهو موضع الحرث وهو تمثيل، أي فأتوهن كما تأتون أراضيكم التي تريدون أن تحرثوها من أي جهة شئتم لا يحظر عليكم جهة دون جهة. وقوله: {هو أذى فاعتزلوا النساء}، {من حيث أمركم الله فأتوا حرثكم أنى شئتم}. من الكنايات اللطيفة والتعريضات المستحسنة، فعلى كل مسلم أن يتأدب بها ويتكلف مثلها في المحاورات والمكاتبات {وَقَدّمُواْ لأَِنفُسِكُمْ} ما يجب تقديمه من الأعمال الصالحة وما هو خلاف ما نهيتم عنه، أو هو طلب الولد أو التسمية على الوطء {واتقوا الله} فلا تجترئوا على المناهي {واعلموا أَنَّكُم ملاقوه} صائرون إليه فاستعدوا للقائه {وَبَشِّرِ المؤمنين} بالثواب يا محمد. وإنما جاء {يسألونك} ثلاث مرات بلا واو ثم مع الواو ثلاثاً لأن سؤالهم عن تلك الحوارث الأول كأنه وقع في أحوال متفرقة فلم يؤت بحرف العطف لأن كل واحد من السؤالات سؤال مبتدأ، وسألوا عن الحوادث الأخر في وقت واحد فجيء بحرف الجمع. لذلك.

.تفسير الآيات (224- 228):

{وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (224) لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ (225) لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (226) وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (227) وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلَاحًا وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (228)}
{وَلاَ تَجْعَلُواْ الله عُرْضَةً لأيمانكم} العرضة فعلة بمعنى مفعول كالقبضة وهي اسم ما تعرضه دون الشيء من عرض العود على الإناء فيتعرض دونه ويصير حاجزاً ومانعاً منه. تقول فلان عرضة دون الخير، وكان الرجل يحلف على بعض الخيرات من صلة رحم أو إصلاح ذات بين أو إحسان إلى أحد أوعبادة ثم يقول: أخاف الله أن أحنث في يميني فيترك البرّ إرادة البر في يمينه فقيل لهم ولا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم أي حاجزاً لما حلفتم عليه، وسمي المحلوف عليه يميناً بتلبسه باليمين كقوله عليه السلام: «من حلف على يمين فرأى غيرها خيراً منها فليكفر عن يمينه» وقوله {أَن تَبَرُّواْ وَتَتَّقُواْ وَتُصْلِحُواْ بَيْنَ الناس} عطف بيان لأيمانكم أي للأمور المحلوف عليها التي هي البر والتقوى والإصلاح بين الناس. واللام تتعلق بالفعل أي ولا تجعلوا الله لأيمانكم برزخاً، ويجوز أن تكون اللام للتعليل ويتعلق {أن تبروا} بالفعل أو بالعرضة أي ولا تجعلوا الله لأجل أيمانكم به عرضة لأن تبروا {واللّه سميعٌ} لأيمانكم {عليمٌ} بنياتكم.
{لاَّ يُؤَاخِذُكُمُ الله باللغو في أيمانكم} اللغو الساقط الذي لا يعتد به من كلام وغيره، ولغو اليمين الساقط الذي لا يعتد به في الأيمان وهو أن يحلف على شيء يظنه على ما حلف عليه والأمر بخلافه، والمعنى لا يعاقبكم بلغو اليمين الذي يحلفه أحدكم، وعند الشافعي رحمه الله هو ما يجري على لسانه من غير قصد للحلف نحو (لا والله) و(بلى والله). {ولكن يُؤَاخِذُكُم} ولكن يعاقبكم {بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ} بما اقترفته من إثم القصد إلى الكذب في اليمين وهو أن يحلف على ما يعلم أنه خلاف ما يقوله وهو اليمين الغموس، وتعلق الشافعي بهذا النص على وجوب الكفارة في الغموس لأن كسب القلب العزم والقصد، والمؤاخذة غير مبينة هنا وبينت في المائدة فكان البيان ثمة بياناً هنا، وقلنا: المؤاخذة هنا مطلقة. وهي في دار الجزاء والمؤاخذة ثم مقيدة بدار الابتلاء فلا يصح حمل البعض على البعض {والله غَفُورٌ حَلِيمٌ} حيث لم يؤاخذكم باللغو في {أيمانكم}.
{لّلَّذِينَ يُؤْلُونَ} يقسمون وهي قراءة ابن عباس رضي الله عنه و{من} في {مِن نّسَائِهِمْ} يتعلق بالجار والمجرور أي للذين كما تقول لك مني نصرة ولك مني معونة أي للمؤلين من نسائهم {تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ} أي استقر للمؤلين ترقب أربعة أشهر لا بـ {يؤلون} لأن آلى يعدّى بـ (على) يقال آلى فلان على امرأته، وقول القائل (آلى فلان من امرأته) وهم توهمه من هذه الآية. ولك أن تقول عدّي ب (من) لما في هذا القسم من معنى البعد فكأنه قيل: يبعدون من نسائهم {فَإِن فَآءُوا} في الأشهر لقراءة عبد الله فإن فاءوا فيهن أي رجعوا إلى الوطء عن الإصرار بتركه {فَإِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ} حيث شرع الكفارة {وَإِنْ عَزَمُواْ الطلاق} بترك الفيء فتربصوا إلى مضي المدة {فَإِنَّ الله سَمِيعٌ} لإِيلائه {عَلِيمٌ} بنيته وهو وعيد على إصرارهم وتركهم الفيئة، وعند الشافعي رحمه الله معناه فإن فاءوا وإن عزموا بعد مضي المدة لأن الفاء للتعقيب.
وقلنا قوله: {فإن فاءوا}. {وإن عزموا} تفصيل لقوله {للذين يؤلون} من نسائهم والتفصيل يعقب المفصل كما تقول: أنا نزيلكم هذا الشهر فإن أحمدتكم أقمت عندكم إلى آخره وإلا لم أقم إلا ريثما أتحول. {والمطلقات} أراد المدخول بهن من ذوات الأقراء. {يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ} خبر في معنى الأمر وأصل الكلام ولتتربص المطلقات، وإخراج الأمر في صورة الخبر تأكيد للأمر وإشعار بأنه مما يجب أن يتلقى بالمسارعة إلى امتثاله فكأنهن امتثلن الأمر بالتربص فهو يخبر عنه موجوداً، ونحوه قولهم في الدعاء (رحمك الله) أخرج في صورة الخبر ثقة بالاستجابة كأنما وجدت الرحمة فهو يخبر عنها. وبناؤه على المبتدأ مما زاده أيضاً فضل تأكيد لأن الجملة الاسمية تدل على الدوام والثبات بخلاف الفعلية. وفي ذكر الأنفس تهييج لهن على التربص وزيادة بعث، لأن أنفس النساء طوامح إلى الرجال فأمرن أن يقمعن أنفسهن ويغلبنها على الطموح ويجبرنها على التربص.
{ثلاثة قُرُوءٍ} جمع قرء أو قرء وهو الحيض لقوله عليه السلام: «دعي الصلاة أيام أقرائك» وقوله: «طلاق الأمة تطليقتان وعدتها حيضتان» ولم يقل طهران. وقوله تعالى: {واللائى يَئِسْنَ مِنَ المحيض مِن نّسَائِكُمْ إِنِ ارتبتم فَعِدَّتُهُنَّ ثلاثة أَشْهُرٍ} [الطلاق: 4]. فأقام الأشهر مقام الحيض دون الأطهار، ولأن المطلوب من العدة استبراء الرحم والحيض هو الذي يستبرأ به الأرحام دون الطهر ولذلك كان الاستبراء من الأمة بالحيضة، ولأنه لو كان طهراً كما قال الشافعي لانقضت العدة بقرأين وبعض الثالث فانتقص العدد عن الثلاثة، لأنه إذا طلقها لآخر الطهر فذا محسوب من العدة عنده، وإذا طلقها في آخر الحيض فذا غير محسوب من العدة عندنا، والثلاث اسم خاص لعدد مخصوص لا يقع على ما دونه. ويقال أقرأت المرأة إذا حاضت وامرأة مقرئ. وانتصاب {ثلاثة} على أنه مفعول به أي يتربصن مضي ثلاثة قروء أو على الظرف أي يتربصن مدة ثلاثة قروء، وجاء المميز على جمع الكثرة دون القلة التي هي الأقراء لاشتراكهما في الجمعية اتساعاً، ولعل القروء كانت أكثر استعمالاً في جمع قرء من الأقراء فأوثر عليه تنزيلاً لقليل الاستعمال منزلة المهمل.
{وَلاَ يَحِلُّ لَهُنَّ أَن يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ الله في أَرْحَامِهِنَّ} من الولد أو من دم الحيض أو منهما، وذلك إذا أرادت المرأة فراق زوجها فكتمت حملها لئلا ينتظر بطلاقها أن تضع، ولئلا يشفق على الولد فيترك تسريحها، أو كتمت حيضها وقالت وهي حائض قد طهرت استعجالاً للطلاق، ثم عظم فعلهن فقال: {إِن كُنَّ يُؤْمِنَّ بالله واليوم الآخر} لأن من آمن بالله وبعقابه لا يجترئ على مثله من العظائم {وَبُعُولَتُهُنَّ} البعول جمع بعل والتاء لاحقة لتأنيث الجمع {أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ} أي أزواجهن أولى برجعتهن، وفيه دليل أن الطلاق الرجعي لا يحرم الوطء حيث سماه زوجاً بعد الطلاق {فِي ذلك} في مدة ذلك التربص، والمعنى أن الرجل إن أراد الرجعة وأبتها المرأة وجب إيثار قوله على قولها وكان هو أحق منها لا أن لها حقاً في الرجعة {إِنْ أَرَادُواْ} {إصلاحا} لما بينهم وبينهن وإحساناً إليهن ولم يريدوا مضارتهن {وَلَهُنَّ مِثْلُ الذي عَلَيْهِنَّ} ويجب لهن من الحق على الرجال من المهر والنفقة وحسن العشرة وترك المضارة مثل الذي يجب لهم عليهن من الأمر والنهي {بالمعروف} بالوجه الذي لا ينكر في الشرع وعادات الناس، فلا يكلف أحد الزوجين صاحبه ما ليس له.
والمراد بالمماثلة مماثلة الواجب الواجب في كونه حسنة لا في جنس الفعل، فلا يجب عليه إذا غسلت ثيابه أو خبزت له أن يفعل نحو ذلك ولكن يقابله بما يليق بالرجال {وَلِلرّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ} زيادة في الحق وفضيلة بالقيام بأمرها وإن اشتركا في اللذة والاستمتاع أو بالإنفاق وملك النكاح {والله عَزِيزٌ} لا يعترض عليه في أموره {حَكِيمٌ} لا يأمر إلا بما هو صواب وحسن.